حسين عبد العزيز

على مدار السنوات الخمس السابقة؛ عمد النظام السوري تدريجياً إلى إخراج معظم البلدات المحيطة بدمشق من دائرة الصراع عبر سياسة التسويات القاتلة، وترك الغوطة الشرقية قضية مؤجلة، بسبب ثقلها الكبير في معادلة الصراع المحلي والإقليمي.
ويأتي بدء النظام بمعركة الغوطة مؤشراً على نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة ذات حسابات تتعلق بالصراع الروسي-الأميركي، وهذا أمر يتطلب تسوية الجيوب الجغرافية الداخلية البعيدة عن الحدود.
ومع ذلك، ستبقى الغوطة الشرقية تحمل أبعاداً إقليمية ودولية، خصوصاً بُعيد صدور القرار الدولي رقم 2401، وهو ما يعني صعوبة استنساخ تجربة حلب لتطبيقها على الغوطة في المدى المنظور.
خلفيات استراتيجية
تشكل جغرافيا النفوذ الأميركي في سوريا تهديداً مباشراً لمصالح روسيا الحيوية، لأنها تضرب بكل الإنجازات العسكرية عرضَ الحائط، نتيجة عجز موسكو عن استثمار النجاحات العسكرية على المستوى السياسي والاقتصادي.
أدرك الروس حقائق الجغرافيا هذه، لكنهم كانوا يعوّلون على نوع من الردع المتوازن بين الطرفين على الأرض السورية، وحاجة كل طرف إلى الآخر لترميم مسار السلام، إلا أن تطورات حصلت خلال الشهرين الماضيين نقلت الطرفين من مرحلة تثبيت مناطق النفوذ إلى مرحلة الاشتباك غير المباشر.
حدث هذا مع ضرب قاعدة حميميم بطائرات مسيرة، ثم إسقاط طائرة سوخوي 25 روسية في إدلب، ثم الضربة العنيفة التي وجّهها التحالف الدولي لمليشيات تابعة لإيران.
ثم أعقب ذلك انهيارُ مؤتمر سوتشي الذي وضع الروس في عنق الزجاجة وأمام مفترق طرق وعر، فأصبحوا لا هم قادرين على تلّمس مقومات التسوية التي يريدونها، ولا يستطيعون مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها على الأرض.
وفي كل مرة ينسدّ فيها الأفق الاستراتيجي أمام الروس، يستجيبون لمطالب النظام السوري وإيران برفع منسوب العمليات العسكرية، حدث هذا بعد انهيار «جنيف 4» مطلع 2016، وحدث أيضاً بعد انهيار الهدنة العسكرية الثانية في أيلول من العام نفسه، ويحدث الآن بُعيد انهيار سوتشي.
وباختصار؛ يعمل الروس على تسوية المناطق القابلة للتصرف بمستويات مختلفة، كالغوطة الشرقية ومناطق جنوبي دمشق، وريف حمص الشمالي والقلمون الشرقي.
إن إنهاء الجيوب الجغرافية في العمق السوري -إما بتسويات أو هدن أو إبادة عسكرية- مرحلة ضرورية للانتقال إلى المرحلة الثانية، التي تتطلب تسخير كل الإمكانات لمواجهة المشروع الأميركي في الشمال والشمال الشرقي من سوريا.
وبناءً على ذلك؛ انتقلت روسيا من مرحلة التفاهم مع فصائل المعارضة العسكرية إلى مرحلة الإبادة، ولما كان من الصعب تطبيق ذلك في الشمال لاعتبارات تركية، لم يكن أمام النظام وروسيا سوى الغوطة الشرقية.
إن السيطرة على الغوطة ستساهم في تغيير اتجاهات الترتيبات السياسية التي من المحتمل صياغتها في الفترة القادمة، في ظل ما ستفرضه من انعكاسات على طاولة المفاوضات وفق الرؤية الروسية، التي لم يغادرها مبدأ «الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى»، رغم أن الوقائع كشفت بطلان هذا المبدأ في سوريا.
وإلى جانب البعد الأميركي في معركة الغوطة الشرقية؛ ثمة بُعدٌ آخر مرتبط بصراع النفوذ المضمر بين روسيا وإيران، فعلى مدار السنوات الماضية تحاول طهران ضمّ كامل محيط العاصمة إلى مناطق نفوذها.
وإذا كانت موسكو قد سمحت بذلك في المناطق الغربية من دمشق، فهي ترفضه في الغوطة، لكونها منطقة منفتحة على الصحراء وامتداداتها إلى السويداء وحمص.
ويبدو أن إصرار الروس في مجلس الأمن على وجود آليات كفيلة باستدامة وقف إطلاق النار، سببه رغبتهم في إحياء بند في اتفاق أستانا يقضي بنشر قوات عسكرية روسية (شيشانية) في الغوطة، بعدما قوبل هذا البند برفض من دمشق وطهران.
حدود المعارك
لن تشهد الغوطة الشرقية إعادة تجربة حلب، فلا الزمن يسمح بذلك خصوصاً بعد صدور القرار الدولي رقم 2401، ولا التفاهمات الدولية، ولا طبيعة الأرض والقوى العسكرية.
في حلب كانت القوة الفعلية لـ«جبهة النصرة»، وهذا ما أدى إلى عدم حصول تفاهمات مع فصائل المعارضة، أما في الغوطة فلا يتجاوز حضور النصرة 300 عنصر، أي أن القوة الفعلية لفصائل المعارضة التي ستكون في خندق واحد رغم اختلافاتها، وهذا ما حدث خلال الأيام السابقة.
كما أن الفصائل في الغوطة تمتلك قدرات عسكرية أكبر بكثير من تلك التي كانت بحوزة الفصائل في حلب، وتمتلك عديداً بشرياً يصل إلى نحو عشرة آلاف مقاتل، فضلاً عن تحويلها الغوطة إلى خنادق وأنفاق مترابطة فيما بينها.
إضافة إلى ذلك، تتداخل القرى والبلدات في الغوطة، بحيث تنعدم المساحات الجغرافية المفتوحة، وقد تحولت هذه الجغرافيا إلى قلعة متينة مليئة بالأنفاق التي تربط أطراف الغوطة بعضها ببعض.
هذه الوقائع يدركها النظام جيداً، ولذلك يعمل على تفكيك تجربة حلب وإعادة تطويرها إلى مرحلتين بما يناسب خصوصية الغوطة:
- المرحلة الأولى: يتم فيها تحقيق سيطرة في عمق الغوطة، ومحاولة تقسيمها إلى قسمين رئيسيين، مع توسيع السيطرة على بعض المناطق في الأطراف في مرحلة تالية، وتفادي الدخول إلى قلب الأحياء السكنية حيث القوة ستكون لصالح المعارضة.
- المرحلة الثانية: سيتم فيها وقفُ المعارك وتشديد الحصار الخانق، بعد تحقيق الفصل الجغرافي والعسكري بين الفصائل، لتسهيل عملية التركيز على الأطراف منفردة، إما عسكرياً أو عبر تسوية سياسية.
وليس صدفة أن يحشد الروس قوات من الجيش والشرطة الروسية أمام قرى المرج من ناحية الشرق لمراقبة الهدنة على خطوط التماس، وهو الأمر الذي يؤكد أن معركة السيطرة على الغوطة بشكل كامل أمر غير وارد في هذه المرحلة.
وللوصول إلى المرحلة الثانية؛ يسعى النظام إلى خلق فجوة بين الفصائل والمدنيين، عبر تكثيف الضربات الجوية وضرب المراكز الطبية، في حين تجهد روسيا ساعية -عبر نافذة الأمم المتحدة- إلى شرعنة قرار تهجير المدنيين تحت عنوان إنساني.
ما بعد الغوطة؟
لن تتخلى فصائل المعارضة ولا المدنيون -الذين هم أهالي الغوطة- عن أراضيهم، فالبديل أصعب من ذلك لأنهم إما أن ينتهي بهم المطاف في سجون النظام، أو يرحّلوا إلى إدلب حيث الواقع سيئ هناك، كما أن الفصائل والمدنيين لا يثقون بالنظام والروس بعد تجربة حلب، حين تم إجلاء المدنيين قبل عملية الاقتحام البري.
ولذلك ستبقى مسألة مصير المدنيين وفصائل المعارضة المسلحة مؤجّلة إلى حين، لكن الواقع العسكري الجديد فرض معادلات ستؤثر سلباً على مستقبل الفصائل، وبالتالي على مصير الغوطة.
تحقيق إنجازات عسكرية في الغوطة الشرقية سيسمح للنظام باستكمال السيطرة على المناطق المهمة الأخرى، وخصوصاً في القلمون الشرقي وريف حمص الشمالي.
فكما منع الأميركيون وصول الإيرانيين إلى مختلف المناطق الحدودية، باستثناء معبر واحد في مدينة البوكمال بمحافظة دير الزور؛ يعمل النظام والإيرانيون على قطع دابر القوى الإقليمية في العمق السوري.
ولعل إعلان موسكو -قبل نحو أسبوعين- أن مهلة الهدنة في ريف حمص الشمالي ستنتهي ولن تجدد، مقدمة لإجراء تسوية نهائية تشابه حي الوعر في حمص، كما أن تعزيز النظام لوجوده في مطار الضمير العسكري يدل على استعداده لفتح جبهة بلدتيْ الضمير-الرحيبة لإجراء تسوية.
إن استكمال السيطرة على هذه المناطق ضروري للتفرغ لمواجهة الوجود الأميركي في الشمال والشمال الشرقي والشرق، وليس مصادفة أن يرتفع مستوى الخطاب السياسي الروسي وتكثر التحذيرات من الوجود الأميركي بقاعدة التنف مع فصائل للمعارضة، وكأن المواجهة المقبلة ستكون في الشرق.}