أيمن نبيل

انتشر فيديو الطفل السوري عمران دقنيش وهو مشدوه تماماً بعد نجاته من قصف جوي على حلب، وقد جابت صورته المؤلمة -كما حدث مع الطفل إيلان من قبل- وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية مثيرة نقاشات أضحت تقليدية ومكرورة.
وما ينبغي الالتفات إليه في رأينا ليس مادة النقاشات الغربية حول مجازر الأطفال في سوريا فحسب، بل يتوجب كذلك التفكير باتجاه عكسي، أي رؤية العالم الجديد وإيديولوجيته الراهنة، عبر التراجيديا السورية ومن خلال عيني أحد رموزها، وهو هذا الطفل الناجي من القصف والموت المحقق.
ترجمة الأخلاقي إلى سياسي
ربما كان أول الدروس المستفادة من ردات الفعل الاجتماعية الأوروبية على إبادة الشعب السوري، هو أن على السياسيين والمثقفين العرب مراجعة تصوراتهم حول مدى تأثير «الرأي العام» في المجتمعات الديمقراطية الرأسمالية. 
فقد اتضح أنه بعد احتلال العراق، تم في المجتمعات الديمقراطية الاستعاضة عن الحراك الشعبي الإيجابي بالتنفيس العام السلبي في سياق التفاعل مع قضايا الشعوب «الأخرى». 
عمليات التنفيس هذه تتولاها وسائل الإعلام شعبية الطابع، وهي تقوم بدور حيوي في تخفيف معاناة الوعي الجمعي من خلال حصر الموضوع في البكائيات على الطفل «عمران» على سبيل المثال، كالقول بأن منظره «يقطّع القلب» -وهو كذلك فعلاً- كما قالت إحدى وسائل الإعلام الألمانية. ولكن السيطرة المطلقة لرأس المال على الإعلام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تجعلنا نرى أن هذه الحملات هي فقط مجرد تخفيف من ألم الضمير عند هذه المجتمعات. 
ظاهرة شبه انعدام أيّ حشد اجتماعي حقيقي في أوروبا والولايات المتحدة بخصوص التراجيديا السورية، يعود إلى أربعة عوامل: 
الأول هو أن ثقافة التنظيم الشعبي على أسس سياسية أخلاقية في العالم كله تقريباً -رأينا هذا في الثورات العربية كذلك- ذوت وبهتت مع انكماش قوى اليسار واندثارها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وهي التي كانت أدبياتها مرجعاً على المستويين النظري والعملي في موضوع التشكيلات والتنظيمات الشعبية وحشد قطاعات اجتماعية على أسس أممية.
العامل الثاني والمتصل بالأول، هو أن منظمات المجتمع المدني حلّت محل الأحزاب السياسية في كثير من نقاشات الشؤون الإنسانية، وهذه المنظمات لا تريد الاضطلاع بتشكيل كتل اجتماعية بإمكانها الضغط بقوة على الحكومات، ولا تطيق القيام بهذا حتى لو أرادت.
العامل الثالث، تم احتكار النشاط الحقوقي من قبل الأمم المتحدة بفعل إمكانات التمويل المهولة وشبكات العلاقات السياسية المعقدة التي تتحرك من خلالها هيئاتها، واتضح أن العمل الحقوقي لم يتم تأميمه بل تمت «مكتبته»، أي تم احتواء الواجب الأخلاقي والنشاط الإنساني الحقوقي في بناء بيروقراطي دولي. 
وهذا الأخير له ممولون كبار وأساسيون ويخضع لموازين القوى السياسية الكبرى في العموم، وهكذا أزاحت «الأمم المتحدة» المسؤولية الأخلاقية عن المجتمعات الديمقراطية، ومن ثم قامت بدورها باختزالها في عمل بيروقراطي مثل إصدار تقارير وصفية دقيقة لحالة «أطفال سوريا» على سبيل المثال أو الدعوة لإدخال المساعدات الغذائية أو التصريحات المعربة عن «القلق» والتي أضحت عند كثير من الناس في العالم الثالث عامة والعربي خاصة محوراً للطرف والنكات المرة.
كل هذه العوامل قامت بشلّ المجتمع وسلبه القدرة على المبادرة في أي منعطف أخلاقي، كالذي وضعتهم فيه صورة عمران المشدوه من الدم والقصف.
انتعاش الدولة
العوامل الثلاثة السابقة في المحور الأول عوامل عامة تراكمت واستفحل أثرها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن عاملين آخرين ظهراً مع بداية القرن الحالي، وهما: هجمات 11 سبتمبر، والأزمة الاقتصادية في عام 2008. 
فقد قاد هذان العاملان إلى تغيرين كبيرين يتغذيان تبادلياً في الوقت الراهن، وهما: صعود اليمين المتطرف، وانتعاش الدولة القومية وسطوتها. 
دروس للمستقبل
وعليه، فإن أول الدروس للقوى السياسية السورية والعربية هو أن الحل في سوريا، ولئن كان قد انفلت من بين أيدي السوريين ليصبح بين يدي توافق روسي أميركي، إلا أن التعويل السطحي الواهم الذي حكم سلوك المعارضة مبكراً على القوى الغربية للتدخل عسكرياً يجب أن ينتهي، ويتوجب على السوريين خاصة، والعرب عامة أن يعرفوا أن المعارك في أروقة الأمم المتحدة معارك سياسية في الأساس تحتاج الحشد والضغط وليس فقط التقارير الحقوقية والتي تلعب فقط دوراً مساعداً، وأن «الرأي العام» العالمي لا يعول عليه بمجرد عرض صور المجازر والضحايا، فهو اليوم عاجز عن الحشد إلا القائم على أساس قومي أو مدني شكلي.
وبالتالي فالدخول لمعركة كسب رأي عام في دول رأسمالية هذه ظروفها، يحتاج إلى جهود ضخمة وكبيرة إعلامياً وتنظيمياً لتقارع كل هذا الشراسة اليمينية، أما التعويل فقط على أثر البكائيات على «عمران» وغيره من الضحايا في دفع وتحويل الحس الأخلاقي عند المجتمعات إلى حراك سياسي شعبي، فلا محلّ له من التفكير الواقعي والعقلاني.