زياد ابحيص

رغم مرور قرنٍ كاملٍ تقريباً على وقوع المسجد الأقصى في قلب خطرٍ وجودي يهدّده، ورغم مكانته الإسلامية العابرة لحدود العالم، إلا أن فشــلاً خطيراً وقع في فهم طبيعته وتعريفه كمقدّس، وفي فهم الخطر المحدق به بالتالي، ولا عجب، فهذا ليس إلا تجلياً لفشل أكثر وضوحاً في الحفاظ على المسجد تحت سيادةٍ عربية إسلامية، وحمايته من الوقوع في يد الاحتلال الخارجي.
على مدى عقودٍ من الزمن، كانت صورة قبة الصخرة مساوية تماماً للمسجد الأقصى في عقول جماهير الفلسطينيين والعرب والمسلمين، حتى جاءت حملة «تصحيحية» في منتصف تسعينات القرن العشرين لتقول إن المسجد الأقصى «ليس» هذه القبة الذهبية، إنما هو ذاك المبنى ذو القبة الرصاصية في صدر المسجد باتجاه قبلته، وحلّت صورة مبنى المسجد القبلي ذو الأروقة السبعة الذي تعلوه قبة رصاصية مكان صورة قبة الصخرة في الجداريات والشعارات والمظاهرات.
بقي تعريف المسجد الأقصى في الحالتين يركز على كونه بناءً، بل إنه خلال هذا «التصحيح» نفى عن قبة الصخرة أنها مقدّسةً أصلاً، وجاء المنطق الافتراضي الذي عملت على أساسه النخب الشرعية والسياسية بمجملها ليقول إن الخطر على هذا المسجد هو «الهدم»، فالخوف من «الهدم» ليس إلا نتيجة طبيعية للاعتقاد بأن هذا المقدّس هو مبنىً بشكلٍ من الأشكال، وليس انعكاساً لأية دراسة موضوعية لحقيقة الرؤية الصهيونية للمسجد والأخطار المحدقة به، بل تقدّم هذا «المنطق» الافتراضي خطوة عند البعض ليدّعي أن الصهاينة هم من نشروا الاهتمام بقبة الصخرة على حساب ما اعتبره «المسجد الأقصى» دون أن يكلّف نفسه أن يسند ادّعاءه هذا بدليلٍ واحد.
تجاهل هذا التعريف وجود سورٍ للمسجد يحيط بمساحة هي 144 ألف مترٍ مربع، يضمها  في وحدة معماريةٍ واحدة متماسكة، وتجاهل أن الأبواب المؤدية للمسجد تقع في هذا السور، وتجاهل أن المآذن الأربع للمسجد تقع على أسواره هذه، ولا يقع أي منها في وسط ساحاته أو فوق جسم قبة الصخرة أو فوق جسم المسجد القبلي، فهي مخصصة لدعوة من هو خارج المسجد إلى داخله للصلاة، ويقول لنا بانيها بالتالي إن كل من دخل هذه الأسوار هو داخل المسجد، وتجاهل كذلك حقيقة أن قبة الصخرة منفردةً في وسطه دون أن تلحق فيها أروقة عرضية للصلاة، وتجاهل هذا الفهم المغلوط الأقوال الواضحة من علماء الإسلام الذين دخلوا المسجد وأكدوا مفهومه، كابن تيمية ومجير الدين العليمي، بأن كل ما في هذا السور هو الأقصى، فهو في الأصل مكان رُفعت فيه بعض الأبنية تجلياً وتعبيراً عن تقديس الأمة له.
في المقابل، كانت المخيلة الصهيونية تجري عملية إحلال إجمالية، فتزيل المسجد بكامل مساحته ومبانيه وتقيم المعبد في الأذهان في مكانه، بينما كانت الأمة الإسلامية تستميت في الدفاع عن بناءٍ واحدٍ بعينه خوفاً من هدمه، فكان الخطر على الأقصى سابقاً للإدراك الإسلامي له ولا يزال.
جاءت الخطوات العملية القضائية الصهيونية عام 2003 لتسمح لليهود باقتحام المسجد ولتلزم الشرطة بحمايتهم، ولتمنحهم في عام 2005 حق الاقتحام الجماعي «في غير وقت صلاة المسلمين»، مستبطنة فكرة التقسيم الزماني، بينما اعتبرت سائر الصحن غير المسقوف للمسجد مجرّد مساحةٍ ذات أهميةٍ سياحية، لتعلن صراحة أن الدوائر الصهيونية الرسمية والاستيطانية الأهلية باتت تضع صحن المسجد غير المسقوف نصب عينيها، وهو الذي يشكل أكثر من تسعة أعشار هذا المسجد، بينما تضع الدوائر الإسلامية جل جهدها في استباق خطر الهدم الافتراضي للمسجد القبلي، وهو الذي يشكل أقل من عشر مساحة المسجد.
اليوم ومع مرور 47 عاماً على ذكرى إحراق المسجد، لا يزال الخطر الأكبر المحدق بالأقصى هو تأخر الوعي العربي والإسلامي عن إدراك ماهيته مقدّساً إسلامياً، وتأخره بالتالي عن إدراك التهديدات المحدقة به، ويبقى الوضع المختل الذي تسبق فيه التهديدات إدراك المدافعين مستمراً لينذر بمزيدٍ من التراجع والتهاوي، ما لم تبادر نخب العاملين والمهتمين إلى تصحيح فهم حقيقة المسجد، وفهم الخطر القريب المحدق به وهو التقسيم، على طريق الخطر الأبعد والأعمق وهو الإحلال وليس مجرّد الهدم، وترجمة ذلك إلى فعلٍ منهجي يضع نصب عينيه حماية كامل مساحة المسجد وليس التحذير من هدم بناءٍ بعينه.