عمر كوش

محطات عديدة عرفتها القضية السورية بوصفها قضية عادلة بدأت حين انتفضت غالبية السوريين -منذ أكثر من ست سنوات- للخلاص من استبداد نظام آل الأسد؛ لكن تدخلات القوى الدولية والإقليمية حولتها إلى صراع مصالح وتقاسم نفوذ، وراحت تديرها وتدوّرها وفقاً لمشاريعها وأجنداتها المختلفة.
كما باتت تتعامل معها بوصفها أزمة صعبة ومعقدة، تطلّب الخوض في تسويتها عقد قمم ومؤتمرات واجتماعات عديدة ما بين جنيف وفيينا وأستانا، مروراً بالرياض وصولاً إلى سوتشي، حيث عُقدت قمة ثلاثية بين رؤساء كل من روسيا وتركيا وإيران، بالتزامن مع اجتماع قوى وهيئات المعارضة في مؤتمر الرياض 2، الذي يراد منه تطويع قوى المعارضة وفق المتغيرات والمستجدات الدولية والإقليمية والميدانية.
قمة سوتشي الثلاثية
أراد الساسة الروس من قمة سوتشي الثلاثية وضع أسس تسوية سياسية على طريقتهم، تضمن في البداية مصالحهم ونفوهم في سوريا، لذلك جرى إحضار رئيس النظام السوري على عجل عشيّة انعقاد القمة، لضمان انخراطه في ترتيبات التسوية الروسية، وتأكيد استعداده للتعامل الإيجابي مع نتائجها، بغية توفير تأثير أوسع لهم على النظام الإيراني، بوصفه الطرف الأقدة على عرقلة ترتيباتهم.
عكس ذلك استعجالَ الساسة الروس لاستثمار ما حققوه على الأرض سياسياً، بما يفضي إلى عقد صفقة تسوية سياسية للقضية السورية على حساب سوريا والشعب السوري، عبر اعتماد حلول ينحصر سقفها في كتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات بإشراف أممي، ومشاركة المعارضة في السلطة ضمن حكومة «وحدة وطنية».
وكل ذلك تحت ظل بقاء بشار الأسد في السلطة (التي لم يعد يمتلكها)، ما يعني ضرب القرارات الأممية، وخاصة بيان جنيف 1 (حزيران 2012) والقرارين الأمميين 2118 و2254، وبالتالي إلغاء المرحلة الانتقالية على أساس بيان جنيف، الذي من المفترض أن تجري على أساسه مفاوضات جنيف.
مؤتمر الرياض 2
ولم يكُ مصادفةً تزامنُ انعقاد مؤتمر الرياض 2 مع قمة سوتشي الثلاثية، فالساسة الروس أردوا أن تكتمل محاولاتهم في إيجاد تسوية سياسية للقضية السورية، عبر تشكيل هيئة تفاوضية جديدة للمعارضة السورية تنال رضاهم، وتضم أعضاء من منصتيْ موسكو والقاهرة، وتشكيل وفد تفاوضي جديد يقبل بمخرجات المتغيرات الدولية والإقليمية، السياسية والميدانية. وهو أمر عكسته حيثيات عقد مؤتمر الرياض 2، حيث تمّت الدعوات إليه وفق التفسير الروسي للقرار 2245، الذي تمسك بأخذ القرار «علماً بالإجماعات التي جرت في موسكو والقاهرة»، وأدار ظهره للهيئة العليا للمفاوضات التي تمخض عنها اجتماع الرياض 1، بوصفها مرجعية للتفاوض مع النظام السوري، حسبما نص عليه القرار الأممي نفسه.
ورغم الاستقالات المتعددة لأعضاء الهيئة العليا للتفاوض، واستبعاد غالبية أعضائها؛ فإن ذلك لم يعق انعقاد المؤتمر، لكنه أثار شكوك الحاضنة الشعبية والنشطاء والمعارضين بشأن أهداف وحيثيات انعقاد الرياض 2.
فقد أصدرت شخصيات سياسية وعسكرية ونشطاء ورؤساء مجالس محافظات بياناً، طالبوا عبره المجتمعين في الرياض بضرورة الحفاظ على ثوابت الثورة وعدم التفريط بها، والتي تتمثل في «رحيل بشار الأسد وزمرته الحاكمة، والتزام عملية الانتقال السياسي المستندة إلى المرجعية الأممية، والمتمثلة بهيئةٍ انتقاليةٍ ذات صلاحيات كاملة».
وقد عُقد مؤتمر الرياض 2 في ظل تخلي الولايات المتحدة وحلفائها، وأغلب دول مجموعة أصدقاء الشعب السوري عن المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري. والأدهى من ذلك هو قيام واشنطن وحلفائها الغربيين بتحجيم فصائل المعارضة في الجنوب السوري، وإبعاد فصائل البادية والفصائل الأخرى عن معارك الرقة ودير الزور والبوكمال، مقابل تقاسم معركة السيطرة على مناطق تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بينها وبين مليشيات «وحدات الحماية» الكردية الحليفة لها، وبين روسيا ومليشيات النظام ومليشيات النظام الإيراني الطائفية التي تدعمها، الأمر الذي أسهم في تقوية طرف النظام والمليشيات الحليفة له، وجعل الروس يشعرون بأنهم الطرف الأقوى في سوريا، ويتحدثون عن انتصارات عسكرية حققوها وباتوا يبحثون عن استثمارها سياسياً، عبر التلاعب بالقضية السورية وجعلها لعبة يتناقلونها مع آخرين، ما بين أستانا وجنيف والرياض وسوتشي.
مخرجات الرياض 2
ومع انعقاد مؤتمر الرياض 2 عبّر سوريون كثر عن خشيتهم من أن يُضيّع المجتمعون فيه ما بقي لهم من أمل، لأن اتساع وتنوع طيف المشاركين في هذا مؤتمر يعني أنهم سيتفقون على نقاط الحدّ الأدنى بغية تحقيق التوافق بينهم.
ذلك أن بعضهم لا يقبل إلا بحل سياسي يضمن عملية انتقال سياسي تنقل سوريا من عهد الاستبداد إلى عهد الحرية والخلاص، عبر تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية وفق القرارات الأممية ذات الصلة، وبعضهم الآخر جرى تصنيعه في موسكو أو سواها على أنه معارضة، كي يعترض على إدراج مصير الأسد في أي من مناقشات أو مخرجات المؤتمر.
ولذلك فإن اتساع طيف المشاركين يطرح مشكلة تنافر أطروحاتهم وخلافاتهم السياسية، الأمر الذي ولّد تخوفاً من أن تفضي مخرجات الرياض 2 إلى توافقات على حساب القضية السورية، حيث أقر المؤتمر بياناً ختامياً عاماً، تضمن كلاماً دبلوماسياً مثل أن «المشاركين ناقشوا الموضوعات المدرجة على جدول الأعمال، وتبنوا الآراء في أجواء يسودها الاحترام المتبادل، والشعور العميق بالمسؤولية التاريخية تجاه الشعب السوري الصامد، وخلصوا إلى التوافق حول القضايا المصيرية التي تواجه سوريا».
ومثل هذا الكلام الإنشائي -وسواه مما ورد في البيان الختامي عن التوافق حول القضايا المصيرية- لا يخدم سوى تمييع المطالب العادلة للسوريين، ويفتح الباب للتأويل واختلاف الفهم، إذ المطلوب من البيان الختامي هو بنود واضحة غير قابلة للتأويل، وذلك مثل أن يقوم الحل السياسي على الالتزام الكامل ببيان جنيف 1 والقرارات الأممية 2118 و2245 والمطالبة بتنفيذها، والبدء في تنفيذ الانتقال السياسي عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وعدم القبول بأي دور لبشار الأسد وأركان نظامه منذ بدء العملية الانتقالية. وقد ورد في البيان الختامي أن «هدف المؤتمر توحيد صفوف قوى الثورة والمعارضة، في رؤية مشتركة لحل سياسي بناء على جنيف 1 (2012)، وقرارَي مجلس الأمن (2118) و(2254)، والقرارات الدولية ذات الصلة، بما يؤسس لمرحلة انتقالية تقود البلاد إلى نظام سياسي ديمقراطي تعددي مدني، يحقق العدالة وينصف ضحايا الاستبداد، وجرائم الحرب».
والسؤال المطروح هو: كيف سيتم التأسيس لمرحلة انتقالية تقود البلاد إلى نظام سياسي ديمقراطي دون عملية انتقال سياسي أولاً، تنقل البلاد من نظام الاستبداد إلى نظام ديمقراطي. وحتى عندما ورد ذكر إقامة هيئة حكم انتقالية، جاء بوصفها قادرة على «أن تهيّئ لبيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية».
ثم أشار البيان إلى أن «المشاركين اتفقوا على أن هدف التسوية السياسية هو تأسيس دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، ما يمكّن السوريين من صياغة دستورهم دون تدخل، واختيار قادتهم عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، يشارك فيها السوريون داخل وخارج سوريا، تحت إشراف الأمم المتحدة، ضمن آلية تصون حقهم في مساءلة تلك القيادات ومحاسبتها، وتحقيق عملية انتقال سياسي جذرية». ولكن من سيقوم بهذه الانتخابات؟ وهل ما ورد من صياغة الدستور وإجراء الانتخابات هو إرضاء للطرف الروسي، الذي نقل القضية السورية من أستانا إلى سوتشي من أجل حوار حول كتابة الدستور وإجراء انتخابات مثلما حددها الرئيس فلاديمير بوتين في قمة سوتشي الثلاثية؟
اللافت هو أن حيثيات مؤتمر الرياض 2 تمت تحت عنوان توحيد المعارضة، وهو أمر اعتدنا عليه كلما زادت الضغوط الدولية والإقليمية في اتجاه تطويع المعارضة وتمييع مطالبها، وترافق ذلك مع غياب أي أفق حقيقي للحل السياسي المطلوب لخلاص سوريا والسوريين، وتكرر الأمر مع ظهور بوادر استحقاقات جولات التفاوض بجنيف ومسار أستانا وسواهما. لكن الأمر نفسه يتكرر في أيامنا هذه بشكل فاقع مع التوافقات الروسية والأميركية الهشة، وبعد فشل مسار أستانا والتعويل الروسي على مؤتمر سوشي المقبل، ودعوة المبعوث الأممي إلى جولة ثامنة من مفاوضات جنيف.
ولعل البتّ في ما يُعرف بـ«عُقدة الأسد» هو أبرز ما يواجه المعارضة السورية، في ظل تغير مواقف القوى الدولية الداعمة للمعارضة، وإصرار روسيا وإيران على رفض حتى مجرد الحديث عن رحيل الأسد، سواء في المرحلة الانتقالية أو حتى ما بعدها. ومن هنا تأتي خطورة إعادة تشكيل أو تطويع وفد المعارضة التفاوضي وحصره في قبول مثل هذه التوافقات، التي تريد تحديد مصير بلادهم ومستقبلها.}