د. علي العتوم

بات من المؤكد أنّ العرب – إلاّ من رحم الله – يقفون ضد مقاومة الفلسطينيين للكيان الصهيوني الذي قام على أنقاض أرضهم، بعد أن اغتصبها بمساعدة الدول الأجنبية وتخاذل الكثير من الدول العربية. مع أن الشرائع السماوية والأرضية تُجيز ذودَ أهل البلاد عن ديارهم إن اعتدى عليها معتدٍ، وتمتدح ما يقومون به، لأنهم أبدَوْا وطنية صادقة أنْ هبّوا لرد الصائل عن بلادهم، ونخوة أصيلة أنْ أَبَوْا الخنوع للمحتل والرضا بخلق الذل والهوان. هذا مع أنّ الدفاع عن فلسطين وواجب حمايتها من أي عدوان، كما هو واجب أهل فلسطين، هو واجب كل عربي ومسلم في شتى أنحاء المعمورة.
وهنا تبدو المفارقة ويبين العجب العُجاب، أنْ لم يكتفِ العربُ بسكوتهم عن المحتل الذي اغتصب أرض شعبهم وديار أمتهم، وعدم قيامهم بواجبهم القومي والوطني والديني تُجاه فلسطين وأهلها، وهم يملكون من الإمكانات: الجيوشَ الجرّارة والأسلحة ذات الشوكة، والأموال الطائلة، ومن الحق في فلسطين ما لا يجهله مُطَّلع أو يُنكِرُه مُنصِف، ويتركوا أهل فلسطين يدافعون عن بلادهم ويقاومون مَنِ احتلّها، بل راحوا يقفون حجر عثرة في طريق دفاع هؤلاء عن وطنهم، فيعترف بعضهم بهذا الاغتصاب وينكر على أهل فلسطين مقاومتهم له، بل زادوا على ذلك أنْ حرّضوا اليهود عليهم. وقد ظهر ذلك بحصار غزة، ووصف المقاومة بالتطرف والإرهاب.
إنه من العرب موقف جِدُّ غريب ومريب، لم يمرَّ مثلُه في تاريخ العرب والمسلمين على مدى أربعة عشر قرناً من الإسلام، بل ولا في تاريخ الجاهلية الطويل قبله!! إنه الخنوع والسقوط الذي لا يقبله عقل ولا نقل، وتأباه الطبيعة البشرية السليمة، عربية كانت أو أعجمية، مسلمة كانت أو كافرة. إنه الموقف الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يجعل الحليمَ حيرانَ في الفتن الطاغية والمِحَن القاهرة، ووصفها بقطع الليل المظلم. وهو الموقف ذاته من جميع قضايا الأمة في كل ديار العروبة والإسلام، مما كان قد حذّر منه الله سبحانه، بقوله: >واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الذينَ ظلموا مِنكُمْ خاصّةً، واعلمُوا أنَّ اللهَ شديدُ العِقابِ>. 
أين النخوة اليعربية، وأين الغضبة المُضَرِية، وأين الدم العربي عند عرب اليوم ليتحرّكوا إنْ كانوا لا يزالون ينتسبون حقّاً إلى قحطان أو عدنان؟! وأين الإسلام وأين العقيدة الصادقة عند هؤلاء، إن كانوا حقّاً مسلمين لتشعرهم بحق أشقائهم من أبناء فلسطين عليهم، فيهبّوا لمساعدتهم والوقوف بجانبهم، ويعلموا أنّ أرض فلسطين أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ويدرك هؤلاء أنّ هذه الكراسي التي يتربعون عليها ما كانت لهم لولا فضل الله ثم فضل الجهاد وفضل الصحابة، أولئك الذين كانوا يفهمون معنى قوله تعالى: >إنّما المُؤْمِنُونَ إخوةٌ<، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يُسلِمُه ولا يخذله)، وأن من حقه عليه العملَ على نُصرته وتفريجَ كُربته.
أجل ما ذنبُ غزة، غزة هاشم والشافعي وعمر وصلاح الدين وقطز وبيبرس والسلطان عبد الحميد، أنْ تُحاصر اليوم هذا الحِصار الظالم من العرب كما يحاصرها اليهودُ المحتلون تماماً بتمام، وكأنها ليست عربية أو مسلمة،  فلا يصل إليها من أسباب الحياة ما يُفرِّج عن أهلها المحروثون من مال أو دواء أو غذاء، وتوصد حدودها وترصد فلا يصل إليها شيءٌ من ذلك إلاّ النزر اليسير أو الزهيد التافه؟! أجل مرّة ومراتٍ، ما ذنبها وأهم معابرها إلى العالم الخارجي بيد العرب - أعني مصر، وهو معبر رفح الذي يعد مصدر الحياة الرئيس والمتنفَّس شبه الوحيد لأبناء القطاع - يشهد الإغلاق معظم أيام السنة، وممن؟! من المصريين إخوة الدين والعروبة والكفاح والتاريخ الواحد!! ألم يقرأ هؤلاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فرَّجَ عن مسلم كُرْبَة من كُرَبِ الدنيا، فرَّجَ اللهُ عنه كربة من كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يسَّرَ على مُعسِر يسَّرَ الله عليه في الدنيا وفي الآخرة، والله  في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه)!
إنّ حقيقة مقاطعة العرب لأهل فلسطين، ولا سيما غزة، تكمنُ في أن هؤلاء يريدون مع اليهود والدول الأجنبية التي تؤيّدها أنْ يُنْهُوا شيئاً اسمه المقاومة، وأنْ يتخلّصوا من عبء قضية فلسطين، وأنْ يسلّموا لليهود بما اغتصبوه عام 1948م، وبما وضعوا عليه اليد عام 1967م، وأنْ يعدّوا اليهود هذا الجسم الغريب المكروه من الشعوب العربية والأمة الإسلامية، شيئاً عادياً في واقع الأمة، وذلك في ما يُسمّى سياسة التطبيع. وهذا ما أوجبتْه عليهم الدول التي يسيرون في فلكها، أنْ يتنكّروا للقضية عامّة وللقطاع خاصة، لأنّ عظم مقاومة اليهود تكمن فيه من فصائل ترفع راية عدم الاعتراف بالكيان الغاصب، وعلى رأسها حماس.
إنه عند الكثيرين من العرب ومن يدورون في فلكهم من غربيين وشرقيين، حِقد على هذا الدين الذي يدعو للمقاومة وبالاصطلاح الإسلامي للجهاد. ومن هنا اعتمد هؤلاء سياسة المقاطعة والمحاصرة لأهل فلسطين، التي تُذكِّرنا - وللأسباب عينها - بمقاطعة قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ومَنْ يؤيدهم من بني هاشم، والتاريخ يعيد نفسه. وهذا ما تعتمده سياسات العديد من الدول العربية بطريق مباشرة أو غير مباشرة، لقد أصبح عرب اليوم ضد دينهم وقومهم وأوطانهم وقضاياهم، وكأنّهم يعيدون سيرة آبائهم الذينَ ناصبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم – العداء، متعاونين مع اليهود والأحابيش كما فعلوا في غزوة الخندق، ولكنّ الله جلّت قدرته سينتقم من هذا الحلف الغاشم لمصلحة الحقّ وأصحابه والمقاومة وأهلها، وشعب فلسطين وكفاحه، كما انتقم يوم ذاك لمصلحة الإسلام والمسلمين.
ختاماً، لعل من أسباب تعثر المصالحة بين فتح وحماس، اختلاف السياستَيْن في الوقوف ضد المحتل. فأولئك يعترفون للمحتل بما اغتصب ويُنسِّقون معه أمنياً، وحماس لا تعترف به وتقاومه وهي ضد أمنه وسلامه، لأنه لصٌّ سارق، نعم تحت ستر أو ستور مخفية تتعثر المصالحة. فالمستور من شروط المصالحة وهو ما يريده العرب والسلطة، التخلّي عن المقاومة، وتسليم ملفها كاملاً لمن يتعاون مع اليهود!! غير أنّ ذلك لن يمرّ بإذن الله.}