عمار ديوب

انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، ثم أصدرت عبر وزير خارجيتها، مايك بومبيو، تحذيرات شملت 12 قضية، لو نفّذتها إيران لعادت إلى إيران الطبيعية، ولجرت تصفية كل ما يخص النووي والباليستي والسيطرة الإقليمية. تريد أميركا إخراج إيران من سورية وكل المنطقة العربية، وهذا مهم للعرب. مشكلتنا هنا في غياب أي مشروع قومي أو وطني عربي. 
إيران.. والمصالح الإسرائيلية
إسرائيل التي لم تتوقف يوماً عن التنديد بإيران وبسياساتها في المنطقة، وإزاء إسرائيل ذاتها، استفادت من سياسة أميركا الجديدة، وبدأت تضاعف قصفها الجوي أية قواعد عسكرية إيرانية في سورية، وكذلك أي شحن أسلحة إلى حزب الله. تغطّي إسرائيل نفسها عبر تنسيقها التام مع الروس، من أجل القيام بذلك، وقد أخذت ضوءاً أخضر منهم أخيراً. إيران التي ندّدت أكثر من مرة بالروس، لعدم معاقبتهم إسرائيل، أو لمنعها من القصف في سورية، صمتت أخيراً؛ فهي تحتاج إلى روسيا في معركتها ضد السياسات الأميركية، وهناك من ينشر تقارير تفيد بحدوث لقاءاتٍ بين حكوميين إيرانيين وإسرائيليين، بغرض توضيح سياسة إيران في سورية، وأنها لا تستهدف إسرائيل، بل الحفاظ على النظام السوري، أي أن إيران تناور بذكاء، بعد أن بدأ الخناق يحاصرها دولياً وإقليمياً. وهذا لن يفيد، فإسرائيل لم تعد تقبل سياسات الاستسلام السرية! 
الضغط الإسرائيلي والقصف المستمر، سيُضعف النظام في سورية بالتأكيد، فإيران بدأت فعلياً بتقليص قواتها في سورية، وتفيد التقارير بانسحاب كثير من قواتها من درعا والقنيطرة، وربما شملت الانسحابات كل سورية. يدعم هذه الفكرة أن الروس لم يستثنوا القوات الإيرانية، حين أوضحوا رؤيتهم بخصوص تلك القوات، وأنها تشمل الإيرانية والأميركية والتركية. ويتلاقى المنطق الروسي هذا مع السياستين، الأميركية والإسرائيلية، في طرد إيران من سورية، وربما من كل الدول العربية. 
أوضحت روسيا أيضاً أنها لن تعيد درعا إلى سلطة النظام، فهناك اتفاق مع أميركا يضمن خفض التصعيد. وتتضمن هذه الخطوة عدة نقاط، أولاً هي ورقة سياسة روسية تقدمها لأميركا بأن حصتها مضمونة في كل سورية، وقبالة ذلك هناك تقارير تفيد باحتمال فكفكة قاعدة التنف وإعطائها للروس، وأيضاً ضمان بقاء الأسد في رأس السلطة إلى عام 2021، وقد يُفتَح معبر نصيب، وتبقى قوات المعارضة بكامل سلاحها في مناطقها. النتيجة هنا، أن روسيا وأميركا تُدوّران الزوايا، وإيران وحدها المتضرّر من ذلك كله. 
أوروبا ستنحاز لأميركا 
أطلقت إيران التي تجد نفسها محاصرة، على لسان مرشدها، سبعة شروط للبقاء في الاتفاق النووي، وكانت بمثابة تهديدات لأوروبا لكي ترفض السياسة الأميركية، وإبقاء السوق الأوروبية مفتوحة أمام النفط الإيراني وإبقاء العلاقات الاقتصادية. لهجة التهديد والوعيد لن تسمح بعلاقات مستمرة مع أوروبا؛ فالأخيرة أُعطيت مهلة تسعين يوماً لإنهاء استثماراتها في إيران، ولتقديم اتفاق نووي بديل، وبعدها ستفرض أميركا عقوبات على أوروبا ذاتها، إذا لم يتحقق مطلبها. طبعاً لا يقارن حجم الاستثمارات بين كل من أوروبا وأميركا بالسوق الإيرانية، وبالتالي لا يمكن أوروبا مقارنة السوق الإيرانية بالأميركية. إيران التي اعتمدت الطائفية، وتشكيل ميليشيات مسلحة، استفادت سابقاً من السياسة الأميركية بالانكفاء، وتمدّدت إقليمياً، لكنها الآن تجد نفسها وجهاً لوجه مع أميركا وإسرائيل، وترى أن سياسة التوافق بينهما وضد العرب تكاد تنتهي. إذاً لم يعد أمام إيران إلا سياسة التفجيرات وخلخلة الأمن بشكل واسع، والتسبب بمشكلة إرهاب كبيرة؛ ربما هذه فرصتها الأخيرة. وما يقلص أهمية ذلك التشدّد الأميركي والمراقبة الدقيقة وتقلص وجود تنظيمي داعش والقاعدة، والرغبة الروسية في الوصول إلى حلٍّ في سورية، أي إنها تريد إنهاء الحرب، وليس السماح بسياسة التفجيرات، والمناورة مع الأميركان؛ فالولايات المتحدة واسرائيل تعطيان روسيا الفرصة الأكبر في احتلال سورية، وهي ستفعل ذلك، وتضمن مصلحتهما. 
لا يؤكد الخطاب الأميركي أهمية سورية، ولكنه يستخدمها ضمن إطار المفاوضات مع الروس، لرسم مناطق نفوذ عالمية ومحاصرة الصين. لا يرى الأميركان سورية مفيدة لهم، ولهذا يؤكدون دور كل من روسيا لفرض احتلالها ودور الاتحاد الأوروبي والخليج لاحقاً في إعادة الإعمار، وتأكيد الانسحاب لاحقاً. هذا ما يدفع الروس إلى أخذ تحفظات الأميركان بالاعتبار، والتقيد بها. 
السياسة التركية 
تقوم الاستراتيجية التركية في سورية على تمكين الإسلاميين والحوار مع السلطة، لجعلهم جزءاً منها، ولاحقاً وضعهم على رأس المعارضة، وكذلك مساندتهم في السيطرة على الفصائل العسكرية؛ والآن هم من يتصدّر جرابلس وعفرين والباب، وسيكون الأمر عينه في كلٍّ من منبج وإدلب، وطبعاً سيكون لهم حصة في أي تسوية سياسية. تعتمد على إسلاميين لا يخرجون عن طوعها. كانت سياستها العامة هكذا، لكنها أصبحت مسائل متفقاً عليها مع الروس بالتحديد؛ فروسيا «المحتلة» تعطي تركيا تلك المناطق، وتُهجّر إليها الفصائل، لتستخدمها تركيا في استراتيجية الثانية، والقائمة على منع أي مشروع كردي على حدودها. هذا ما لم تتنازل عنه تركيا مع الروس أو الأميركان. الخلافات الطويلة بين الدولتين (أميركا وتركيا) بخصوص الموقف من حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، لم تمنع من استمرار العلاقات بينهما والتنسيق بخصوص سورية، وقد شهد الأكراد «خيانتين» لهم، عبر التخلي عن عفرين، والآن عن منبج، وقد تكون المرحلة الثالثة، تسليم الرقة وبلداتها لأهلها من العرب. تحقق تركيا استراتيجيتها تارة بالعلاقة مع الروس وتارة مع الأميركان. 
تؤكد إسرائيل أنها لن تسمح بوجود إيران، ليس في محيط الجولان، بل وفي كل سورية. الأمر نفسه يخص الأميركان. سيكون الروس والأتراك سعداء بالتخلص من إيران في سورية؛ فإيران تنافس الدولتين فيها، وتعتقد أنها من أنقذ النظام من سقوطه، مشكلتها الأكبر أنها دعمت النظام بمليارات الدولارات، وعَادت شعبها وعاداها، بسبب ذلك، وتكرّر الاحتجاجات الشعبية فيها أن شعب إيران جائع، بسبب دعمها النظام السوري، وبالتالي سيكون الانسحاب من سورية بمثابة كارثة، وسبباً إضافياً للتمرد، ولهذا ستناور طويلاً للحصول على عائدات مالية مجزية للانسحاب المطلوب. 
سياسة الخليج المتضاربة 
سياسات الخليج متضاربة إزاء سورية بسبب الخلاف الخليجي، وإذا كانت قطر معنية بسورية بعد مرحلة الاستقرار، وبسياق الدول التي ستدعم الإعمار، فإن بقية دول الخليج تحاول الدخول إلى الرقة من زاوية الأميركان لإزعاج تركيا وقطر، وهذا لن يحقق لهم شيئاً، فمناطق شرق سورية لن تبدأ فيها عملية إعادة الإعمار من أميركا إلا بالتنسيق مع الروس، وبعد الانتهاء من الحرب كلية والبدء بالتسوية، أي أنهم يعزّزون الانشقاق الخليجي، بدلاً من التوافق مع قطر، ورسم استراتيجية خليجية لكل القضايا الحساسة في المنطقة، كالموقف مما يحدث في العراق واليمن وسورية وإيران وإسرائيل. 
أخيراً سُلّمت منبج للأتراك، وظلت درعا ضمن اتفاقية خفض التصعيد، وتراجعت إيران وحلفاؤها عن محيط الجولان والحدود مع درعا، وتقدمت تركيا باتجاه جسر الشغور، ووضعت نقاطاً جديدة لبسط سيطرتها، ولم تتراجع الولايات المتحدة عن المناطق التي في حوزتها باستثناء منبج، وقد تعطي الرقة ومحيطها إلى أهلها. المهم في ذلك كله أن هنا مناطق النفوذ تُرسم، ويجري إيقاف الحرب بينهما، وهذا يحصل بتدخل أميركي مباشر، كما حصل بين العرب والكرد في الرقة أخيراً، وكذلك من الروس لفرض نفوذهم في المنطقة الجنوبية من دمشق. ويضبط الأتراك بدورهم الفصائل الموجودة في مناطقهم، وسيكون لها الدور الأساسي في تصفية بقايا جبهة النصرة و«القاعدة» والجهاديين في إدلب، وفرض سيطرتها عليها.
أسئلة للسوريين 
لكن، هل سيتمكن السوريون من إنشاء دولتهم المستقلة مستقبلاً؟ ما جاء أعلاه ينفي ذلك، ويؤكد أن سورية ستكون محتلة. هل تندلع حرب وطنية ضد الاحتلالات؟ أيضاً هذا يتطلب مشتركات سورية سورية، وهي لم تظهر بعد، وهناك انقسامات طائفية وقومية ومناطقية وعشائرية، أي ليس هناك مشروع وطني جامع بعد. سورية هذه تتطلب زمناً إضافياً، لترى بأم العين نتائج الاحتلالات، ولتتخلص من أوهام أن النظام يدافع عن كتلةٍ من الشعب، والمعارضة والفصائل، ومنهم الكردية تدافع عن كتلة أخرى. حينما تبدأ مؤشرات الفهم الدقيق لدور النظام والفصائل، وأنّها مجرد أدوات محلية لتمكين الاحتلالات، ولفائدتها الفئوية، وتحديداً قياداتها، حينها فقط سيكون هناك إمكانية أوليّة لتشكيل مشروع وطني. 
نعم، الآن تهيّئ السياسات الدولية الأرض السورية للاحتلالات، وتصفية أية محاولات لرفض ذلك. 
تتطلب سورية مشروعاً وطنياً، يتبنى إنشاء دولة للجميع، دولة لا تمثل الطوائف، ولا الدول الخارجية، وتمثل فقط مصلحة كل السوريين، بكل قومياتهم وطوائفهم وقبائلهم. ولكن وفق مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، وباعتبارهم شعباً واحداً، وفيه خصوصيات قومية.}