العدد 1420 / 8-7-2020
بقلم: أسامة أبو ارشيد

ضربة موجعة للهيبة الأميركية وانتقاص من كرامتها، كما أنها توبيخ ضمني لاذع بطعم الإهانة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وله شخصياً. كانت تلك بعض توصيفات حفلت بها الصحافة الأميركية في سياق تعليقها على استثناء الولايات المتحدة من قائمة الاتحاد الأوروبي للدول التي يُسمح لمواطنيها بالسفر إليه، وإلى منطقة "شنغن"، ضمن إجراءات محاولة الحدّ من انتشار فيروس كوفيد - 19. تضمنت القائمة الصادرة الثلاثاء الماضي، 14 دولة، وواحدة أخرى مشروطة. وقد تمَّ تحديدها بناء على "معايير موضوعية" ترتكز إلى "الحالة الوبائية" في كل بلد، مقارنة بدولة متوسطة في الاتحاد، لناحية عدد الإصابات الجديدة واتجاهات العدوى، والقدرة على إجراء فحوصات الفيروس، وتعقبه وعلاجه، والإبلاغ عنه: الجزائر، أستراليا، كندا، جورجيا، اليابان، الجبل الأسود، المغرب، نيوزيلندا، رواندا، صربيا، كوريا الجنوبية، تايلاند، تونس، وأوروغواي. في حين اشترطت القائمة السماح للصينيين بالسفر إلى أوروبا بفتح بلدهم حدوده أمام سكان الاتحاد.

المفارقة أن دولا كثيرةً عدّتها قائمة الاتحاد آمنةً بناء على "المعايير الموضوعية" لا تعتبر ذات وزن وشأن في مقاربة العنجهية الأميركية، ومع ذلك تقدّمت على الولايات المتحدة، وفاقتها من حيث فعالية التصدّي للفيروس واحتوائه، على الرغم من فارق الإمكانات. أما الإهانة الأكبر للكبرياء الأميركية فكانت في تضمين الصين، التي يحمّلها ترامب مسؤولية تفشّي الوباء ويصعّد معها، ويطالب الأوروبيين بالوقوف معه ضدها، ضمن الدول التي يُسمح لمواطنيها بالسفر إلى أوروبا، والشرط الوحيد الموضوع هنا هو المعاملة بالمثل. وعلى الرغم من مرارة القرار أميركياً، خصوصاً وأن تقارير عدة أفادت بأن واشنطن ضغطت على الاتحاد الأوروبي لشمل الأميركيين في قائمته، إلا أن أغلب الإعلام الأميركي تَفَهَّمَ قرار الاتحاد، ووجّه اللوم إلى إدارة ترامب. وبغض النظر عن بغض أغلب المؤسسة الإعلامية الأميركية لترامب، واحتفائها بكل عثرةٍ له، إلا أنها مصيبة في هذه المسألة، كما أن الاتحاد الأوروبي مصيبٌ باستثناء المواطنين الأميركيين، عموماً، من دخول الدول الأعضاء فيه. لماذا؟

أولاً، إذا أخذنا بـ"المعايير الموضوعية" الأربعة التي حدّدها الاتحاد الأوروبي لرفع قيود السفر إليه من دول أجنبية، نجد أن الولايات المتحدة لا تستجيب لأيٍّ منها. خذ مثلاً، معيار "الوضع الوبائي"، إذ يوجد اليوم في أميركا وحدها أكثر من 2,6 مليون مصاب بفيروس كورونا، وأكثر من 127,000 وفاة بسببه. قارن ذلك بـ 10,5 ملايين إصابة، و512,000 وفاة على الصعيد العالمي. وحسب دراسة أميركية نشرت قبل أيام، قد تكون نسبة وفيات فيروس كورونا أميركياً أعلى من الرقم الرسمي بـ35%، ذلك أنه لم يتم اعتباره السبب الرئيسي للوفاة في حالات كثيرة.

ثانياً، في مقابل النجاحين، الأوروبي والصيني، وفي الدول الأخرى المشمولة برفع قيود السفر أوروبياً، في احتواء انتشار الفيروس، نجد فشلاً أميركياً ذريعاً في التعامل معه. مثلاً، تفيد معطيات تتبع معدل الإصابات الأميركية بالفيروس بأنها ما بين 44,000 و48,000 إصابة يومية. وقبل أيام فقط، حذر مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، وعضو فريق عمل البيت الأبيض للتصدّي لجائحة كورونا، أنتوني فوتشي، من أن معدّل الإصابات سيصل إلى مائة ألف حالة يومياً إذا لم يلتزم المواطنون الأميركيون بإجراءات السلامة الصحية، مثل "التباعد الاجتماعي" ولبس الكمّامات في الأماكن العامة. قارن ذلك بالأرقام الأوروبية، التي تسجل الآن أقل من خمسة آلاف إصابة يومياً. ومن الضروري التذكير هنا أن أوروبا، حتى أسابيع قليلة، كانت مركز الجائحة عالمياً.

تصاعد الإصابات في 36 ولاية أمريكية من أصل خمسين، وأخطرها اليوم: كاليفورنيا، تكساس، فلوريدا، وأريزونا.

أبعد من ذلك، بعد أسابيع من الإغلاق في ولاياتٍ أميركية كثيرة، ثُمَّ تخفيف إجراءاته في الأسابيع القليلة الماضية، نجد تصاعداً الإصابات في 36 ولاية من أصل خمسين، وأخطرها اليوم: كاليفورنيا، تكساس، فلوريدا، وأريزونا.

ثالثاً، تقع المسؤولية الأكبر في الفشل على عاتق إدارة ترامب، وشخصه ذاته. على مدى أكثر من شهرين، ما بين كانون الثاني وحتى منتصف آذار 2020، تقريباً، تراوح موقف ترامب ما بين إنكار وجود جائحة، وعدّ ذلك "خدعة ديمقراطية"، والتهوين من شأنها. وكانت النتيجة أنه ما بين 28 مارس/ آذار، و24 نيسان، ارتفع عدد الوفيات جرّاء الفيروس من ألفين إلى خمسين ألفا. في حين كانت الإصابات قبل 28 آذار بضع مئات، والوفيات حالات معدودة. ولأن السلطة الفيدرالية تركت إدارة التصدّي للجائحة للولايات والمدن، ولأن ترامب يصر اليوم على إعادة فتح البلاد، من دون فرض إجراءات سلامة، فإن أميركا تتجه نحو كارثة أسوأ من القائمة الآن، كما توضح الأرقام المشار إليها.

ولا يقف تهور ترامب، أو قل حماقته، عند ذلك الحد، بل إنه يحرّض الأميركيين على عدم ارتداء الكمّامات، على عكس ما تنصح به إدارته رسمياً، إذ أصبح ارتداء الكمّامة في أميركا اليوم تعبيراً عن موقف وانتماء سياسي. أيضاً، يرفض ترامب سياسة "التباعد الاجتماعي"، وهو قد عاد الشهر الماضي إلى استئناف مهرجاناته الانتخابية، وكانت من نتيجة ذلك إصابة ثمانية من مساعديه وحرسه في مهرجان أقامته حملته الانتخابية في مدينة طلسا في ولاية أوكلاهوما. كل ما يهم ترامب هنا حظوظه الانتخابية، لا أمن شعبه الصحي. ليس أدل على ذلك من إصراره على إجراء احتفالات "يوم الاستقلال"، والذي يصادف يوم غد السبت، في واشنطن العاصمة، على الرغم من معارضة رئيسة البلدية، وتحذيرات خبراء الأمراض الوبائية المُعدية في إدارته. لا يبدو أن ذلك كله يعنيه في شيء، وهو يعلن أنه سيشرف بنفسه على تلك الاحتفالات بإطلاق الألعاب النارية، ويتوقع أن يحضرها عشرات الآلاف في منطقة ضيقة محصورة في العاصمة! اللافت أن ترامب على اطّلاع على تقديرات المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدية، التابع لإدارته، والتي تقول إن المتوسط التراكمي للقتلى الأميركيين جرّاء الفيروس، مع حلول الأول من تشرين الأول من هذا العام، سيكون بحدود 179,106، ويمكن أن ينخفض إلى متوسط تراكمي هو: 146,047، إذا التزم 95% من الأميركيين بارتداء الأقنعة الواقية في الأماكن العامة. ولكن لا حياة لمن تنادي.

لذلك كله، لا يلام الأوروبيون على استثنائهم المواطنين الأميركيين من قائمة المسموح لهم بالسفر إلى دولهم. ولا يلامون على إهانتهم ترامب، فهو كان، ولا يزال، يجرّعهم الإهانة تلو الأخرى. وليس صحيحاً أن الصين تفوقت على أميركا في التصدّي للجائحة واختراق جدار "التحالف الغربي"، وعزل الولايات المتحدة داخل فلكها نفسه، بل إن أميركا ترامب هي من مَكَّنَت الصين من ذلك. وإذا نجح ترامب لسنوات أربع مقبلة، حينها لن يكون الأميركي منبوذاً فحسب، لا يغني عنه جواز سفره الأزرق، بل قد يجد "الدولة الأعظم" التي يفاخر بِكِبْرٍ بالانتماء إليها مرفوضة ومكروهة من الجميع، ولا تتربع على عرش قيادة العالم من جديد. لقد سئم جُلُّ المجتمع الدولي، حلفاء وأعداء، العجرفة الأميركية، والمتربصون الطامعون بهذه المكانة البغيضة كثر، وليست الصين وروسيا عن ذلك ببعيدة.