العدد 1415 / 3-6-2020

أثار خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في 19 أيار ، جملة من التساؤلات، فقد بدا كأنه خطوة إلى الأمام، عندما أعلن أن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين باتتا في "حِلٍّ" من الاتفاقيات المبرمة مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وأنه ذاهب لإعلان فلسطين دولة محتلة بما يُفتَرض أن يُرتب ذلك من مسؤوليات على الاحتلال وعلى الأمم المتحدة. وذهبت ردود الأفعال على هذا في اتجاهين: الأول غير مصدّق بسبب إعلانات مثيلة، متكرّرة سابقا، لم تجد طريقها إلى التنفيذ. والثاني مشكك في إمكانية تطبيقها حتى لو صدقت النيات. ويعبّر الموقفان عن عمق الأزمة الفلسطينية وتعقيداتها.

يحبّ الجمهور الفلسطيني أن يسمع كلمات "إلغاء" اتفاق أوسلو و"حل" السلطة و"وقف" التنسيق الأمني، لكنه لن يسمع أيا منها، فالرئيس سائر على نهج ثابت لن يتغير في جوهره بدأ منذ عقود، منذ تبني منظمة التحرير الحل المرحلي عام 1974 وقرارات المجالس الوطنية اللاحقة التي أكدته، وإعلان الاستقلال عام 1988، وجميعها مهدت الوصول إلى اتفاق أوسلو. كما أن خطط ضم أراض في الضفة الغربية، وأعلن عنها الكيان الصهيوني أخيرا تتوافق "كليا" مع خرائط اتفاق أوسلو عندما قسم الضفة الفلسطينية إلى مناطق ألف وباء وجيم، والضم سيتم في مناطق "جيم" التي لا دور فيها للسلطة الفلسطينية من الأساس، لا أمني ولا إداري، حسب اتفاق أوسلو.

أما "صفقة القرن" فقد أُنجز ثلاثة أرباعها سلفا، وبات الكلام عن التصدّي لها غير عملي، بغض النظر عن النيات. حيث أُغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن (المنظمة ممثل الشعب

"كان الأوْلى أن يعلن عباس فصل السلطة الوطنية عن منظمة التحرير"الفلسطيني) وأوقفت الولايات المتحدة تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، وتغير تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث لم يبق منهم 5% على قيد الحياة، وتم نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبارها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني. وتم التوجه مباشرة إلى الدول العربية لعزل الفلسطينيين ومحاصرتهم عبر التطبيع، بالإضافة إلى تمزيق المرجعيات القانونية التي يستند إليها الفلسطينيون، ومعها المبادرة العربية والإتفاقيات الثنائية مع الكيان والولايات المتحدة التي تم إحراقها جميعا. بمعنى أنه تم سلخ جِلْد الفلسطينيين، وإزالة لحمهم، ولم يبق إلا تكسير عظامهم ودفنها في معازل الضفة.

إذن، ماذا قال الرئيس أبو مازن؟ قال إن المنظمة والسلطة الفلسطينيتين في "حِلّ" من الاتفاقيات. وقال إنه ملتزم بدفع رواتب العاملين في السلطة (180 ألف دولار تقريبا) والصرف على الحكومة والخدمات، التي لن تأتي إلا عن طريق نظام المقاصّة مع الصهاينة، كما أنه ملتزم باستمرار تدفق رواتب عدد مساو من المواطنين الذين يعملون في الكيان، والذين لا يستطيع توفير البديل لهم. وإنه لن يمس المعبر الحدودي الوحيد للضفة ومنفذها على العالم، للعابرين والبضائع، والذي لا بد أن يتم بالتوافق مع الإحتلال. وإنه ملتزم بفرض الأمن في الضفة في المجتمع الفلسطيني، بما في ذلك محاربة الجريمة والإرهاب، حفاظا على "السلم المجتمعي". وإذا تم ضم مناطق "جيم" فلن يتم التنسيق أمنيا في تلك المناطق التي ستصبح تحت مسؤولية الإحتلال. لكنه ذاهب إلى الأمم المتحدة لإعلان فلسطين دولة محتلة (!) ومتمسك بعقد مؤتمر دولي أو مؤتمر للرباعية الدولية، ولن يجلس مع الولايات المتحدة، ولن يقبل احتكارها القضية الفلسطينية بعد اليوم. هذا ما قاله أبو مازن، في ما قاله وما لم يقله.

ماذا قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو؟ إن ضم أراضي "يهودا والسامرة" يقرّبنا من السلام. وإن بامكانكم إعلان ما شئتم، دولة أو حتى "إمبراطورية"، ما دام الواقع كما هو عليه. ولن يكون الوضع في الضفة أسوأ من وضع غزة التي نمرّر الأموال لها عن طيب خاطر، ما دام الوضع كما هو عليه. ومن أجل ضم الأراضي، لا تؤذينا صرخاتكم، بل ربما نشفق عليكم لأنكم لا تريدون اغتنام المكاسب الاقتصادية التي عرضناها عليكم. لكن على المدى الطويل الضم في مصلحتنا الإستراتيجية، ونستطيع تحمل بعض الأذى.

ماذا يستطيع أبو مازن أن يفعل؟ لا بد من التأكيد على أن الفشل الفلسطيني في الأداء كان وليد عشرات القرارات منذ تأسيس منظمة التحرير. وبالتالي، لا يمكن تخيل الإصلاح بقرار "تاريخي"، أو بجرعة من ترياق تشفي من كل سقم. كان الأوْلى أن يعترف أبو مازن بفشل التجربة، كما يفعل القادة الذين يصارحون شعوبهم. وهي بالمناسبة ليست تجربته وحده ولا يتحمل المسؤولية عنها وحده، بل هي حصيلة مسار طويل، وساهمت في ذلك كل فصائل الموالاة والمعارضة، داخل منظمة التحرير وخارجها، وإنْ لا يتساوون في تحمل المسؤولية، إلا أن النتيجة واحدة.

كان الأوْلى أن يعلن الرئيس عباس فصل السلطة الوطنية عن منظمة التحرير، ويعلن السلطة "سلطة" أمر واقع لإدارة شؤون المواطنين تحت الاحتلال، ويعيد كامل الشأن السياسي لمنظمة التحرير التي بالمناسبة لن تتأثر لا هي ولا فلسطين "الدولة المراقب غير العضو" في الأمم المتحدة، ولن يتم إنزال علم فلسطين لديها بموجب أي من ذلك، حسب القانون الدولي. كان الأوْلى أن يتوجه إلى غزة، وإلى المخيمات في الأردن وسورية ولبنان، وإلى الفلسطينيين في الشتات، يجمعهم جميعا أفرادا وجماعات وفصائل، ويدعو إلى مؤتمر وطني تأسيسي جديد (في إطار المنظمة)، كما فعل الحاج أمين الحسيني عام 1948 وأحمد الشقيري عام 1964.

ماذا فعل الرئيس محمود عباس؟ يبدو أنه ما زال متأثرا بدراسته في الاتحاد السوفييتي، وتجربة الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف الذي رد على الالتماسات والانتقادات والدعوات بضرورة الإصلاح والتغيير بقوله: أغلقوا النوافذ، وتخيّلوا أن القطار يسير.