في اعتداء وزير فرنسي على حرّية المعرفة
العدد 1689 /12-11-2025
معن البياري
لم يتزيّد صديقنا
الروائي والأكاديمي المغربي، أحمد المديني، لمّا وصَف، في كتابٍ شائقٍ له،
"الكوليج دو فرانس"، بأنها "أرفع قلعة أكاديمية في فرنسا".
ولا يتزيّد أيٌّ منّا لو نعَتَ سلوك وزير التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسي،
فيليب باتيست، بالرداءة والركاكة، عندما اغتبطَ بقرار إدارة الكلية العريقة إلغاء
استضافة مؤتمرٍ، عنوانُه "فلسطين وأوروبا... ثقل الماضي والديناميّات
المعاصرة"، ينظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وفي عباطةٍ نافرة،
سوّغ سرورَه هذا بـ"ضمان العلمية"، ثم تطاول، متجاوزاً اللياقة، في زعمه
إنّ المركز لا يأخُذ بحرية النقاش بناءً على الاحترام والتعدّدية. وأجاز لنفسه أن
يثرثر باسترسالٍ، في تدوينةٍ عجيبة، عن الحرّية الأكاديمية، وهو الذي اعتدى على
هذه الحرّية، عندما مارس تدخّلاً سياسيّاً فظّاً، ومستنكَراً بالضرورة، دلّ عليه
قوله إنّ قرار إلغاء استضافة المؤتمر، العلمي الأكاديمي على ما قد يجهل الوزير،
صدر بالتنسيق بينه وبين مدير "الكوليج دو فرانس"، فهنّأ الأخير على هذا
التصرّف الذي جاء مفاجئاً، بعد شهورٍ من التواصل بين المركز العربي والكلية
العتيدة، لتنظيم المؤتمر المقرّر أن يشارك فيه أعلام مختصّون، من جامعاتٍ في لندن
وبروكسيل ومدريد وباريس ولوزان وغيرها، يحوزون سمعتَهم الأكاديمية العالية. ومثيرٌ
للاستغراب، أقلّه، أن يُبرّر بيان الكلية الشهيرة القرار المؤسف بالحرص على
"أمن الموظّفين ومن يحضُرون نشاطاتها"، و"على منع الإخلال بالنظام
العام". وليس من تعقيبٍ على هذا الكلام، عندما يصدُر من إدارة قلعةٍ
أكاديميّةٍ للدراسات العليا والمتخصّصة، سوى أنه استهدافٌ وتشويهٌ مرفوضان، يُرمى
بهما المركز العربي الذي أسهمت مشاريعُه وإصداراتُه وبرامجُه وأنشطتُه ومؤتمراتُه
منذ 25 عاماً بتنويعٍ شديد الغنى في الإنتاج المعرفي والبحثي في العلوم الاجتماعية
والإنسانية. وبذلك، ليس من اللائق، أبداً، هذا التجاوز المستفظَع. والمعلوم أن فرع
المركز في باريس ينشط في فعالياتٍ تنهض على تعدّد الرؤى وتنوّع المنهجيّات واتّساع
الرؤى في مقاربات قضايا من الراهن ومن التاريخ وأخرى متعلّقة بالمستقبل.
بالغ القيمة
والأهمية أن يصدُر أمس البيان المُحكَم في قرائنه وشواهدِه ومنطوقِه، والذي ردّ
على أباطيل الوزير الفرنسي وعلى إدارة "الكوليج دو فرانس"، مشترَكاً بين
المركز العربي وكرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي في الكلية، ما يعني أن ثمّة
حيّزاً للنزاهة في هذا الصرح الأكاديمي، لا تُقيم فيه إدارته. ولمّا كان المركز
العربي قد انتظمت له مؤتمراتٌ وندواتٌ سابقاً في رحاب هذه المنارة الفرنسية فذلك
مما يعني أنّ لدى هذه الإدارة درايةً بالمكانة التي يحوزُها علمياً. ومؤسفٌ أن
يُماشي الوزير في غبطته بالقرار صحافةً منحازةً، موتورةً في شؤون فلسطين وقضايا
العرب. ولا نظنّ أن البيان المدقّق والمسلّح بالحجج غادر الصواب في تأشيرِه إلى أن
هذا الرجل كان وراء ضغوطٍ مباشرةٍ لاتخاذ القرار الذي يُسيء إلى سمعة الأكاديميا
والتقاليد الجامعية الفرنسية. ولم يبالغ البيانُ لمّا شدّد على أنّ الحرّية
الأكاديمية اليوم على المحكّ، تماماً لمّا استهجن أن يصبح للسلطة السياسية الحقّ
في تحديد ما هو "علمي" وما ليس كذلك.
نشطت منظمّةٌ
ذاتُ توجّهاتٍ صهيونيةٍ في التحريض ضد المؤتمر، وألّبت واحدةٌ من صحف الارتجال
عليه، فاستجاب وزيرٌ من اختصاصاته حماية البحث العلمي والعمل على تطويره. ولا غلوّ
هنا في القول إنّ هذا كله يؤشّر إلى عوجٍ يبعثُ على الأسف والأسى، قد نُصادف مثله
في بلادٍ عالمثالثيةٍ يتدخّل فيها الأمني والرقابي والسياسي في بعض العمل التعليمي
والجامعي. أمّا أن يُعايَن في عاصمة الأنوار والحداثة فهذا مما لا يجوز بشأنه سوى
الاستنكار والاستهجان، وربما الغضب. وإذ وُثّقت وقائع، في العامين الأخيرين، لا
شطط في نعتها بأنها عُرفية، عندما مُنعت أنشطة تضامنٍ، في جامعاتٍ فرنسية، مع
الغزّيين المنكوبين بحرب إبادةٍ إسرائيلية مشهودة، استُضيف فيها برلمانيون
وسياسيون متعاطفون مع فلسطين، فإن لبعضنا أن يرى اتّساقاً بينها وبين واقعة الوزير
باتيست و"الكوليج دو فرانس"، إلّا أن الأمر ليس كذلك، فليس المؤتمرُ
المستهدفُ نشاطاً سياسياً، ولا دعائيّاً أو شعاراتياً، وإنما شغلٌ في البحث
المعرفي في راهنٍ متحرّكٍ وتاريخٍ مثقلٍ بين فلسطين وأوروبا... للعلم والتذكير فقط.