رامي الخليفة العلي

العالم صبيحة الحادي والعشرين من كانون الثاني مختلف عن ذلك الذي ألفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فالرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب تسلّم مهامّ منصبه. ترامب القادم من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية وعد خلال حملته الانتخابية، إضافة إلى سلسلة التعيينات في الإدارة الأمريكية الجديدة، بإحداث انقلاب في بنية السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، لكن من المؤكد أن هذه التغييرات سوف تطاول أركان المعمورة الأربعة. من الناحية الاستراتيجية الصرفة، فإن ما يعد به ترامب يصيب نموذج الدولة الغربية في مقتل. 
الدولة الحديثة في الغرب نشأت على أساس مبدأ (الدولة - الأمة) وتحت هذه اللافتة انتهجت الدول الحديثة سياسة إمبريالية عانت منها دول العالم الثالث شرّ معاناة بسبب الاستعمار والاحتلال وفرض الحماية والاستغلال، ونهب الثروات التي طبعت القرن التاسع عشر. ولكن هذه السياسة هي نفسها التي دفعت باتجاهات يمينية متطرفة متمثلة بالنازية والفاشية إلى صدارة المشهد في العالم الغربي. في نهاية المطاف دفع العالم ثمناً باهظاً لهذه الاتجاهات اليمينية والتيارات القومية المتطرفة، تمثل في حربين عالميتين أزهقت خلالهما ملايين الأرواح. هذه الكارثة دفعت إلى تغييرات على المستوى الداخلي في الدول الغربية بحيث تخلت عن مبدأ الدولة - الأمة إلى مبدأ الدولة متعددة الثقافات والأديان والمذاهب، دولة القانون التي لا تميز بين مواطنيها، وأخذت الدولة الغربية على عاتقها عدم تكرار الهولوكست اليهودي، على الأقل داخل حدود العالم الغربي.
على الصعيد العالمي تم إنشاء نوع من الحوكمة الدولية متمثلة في منظمة الأمم المتحدة باعتبارها الإطار الذي من خلاله يُحافَظ على الأمن والسلم الدوليّين، وبناء منظومة لحقوق الإنسان برعاية دولية، واتجاه نحو تعاون دولي في قضايا تهم الإنسانية كرعاية الطفولة والحفاظ على التراث الإنساني وغيرها. قد يجادل البعض بأن هذه التغييرات على المستوى الدولي لم تمنع قيام الحروب ولم توقف استغلال الشمال للجنوب ولم تدفع الإنسانية إلى النموذج المثالي الذي تطمح إليه، وهذا في معظمه صحيح، ولكن من الصحيح أيضاً أن الإنسانية نجحت في إنشاء أساس يمكن البناء عليه. 
في العلاقات الدولية يعد ترامب بحقبة مختلفة وإن كانت إشاراته في هذا الصدد تبدو متناقضة وغير واضحة المعالم، ولكن أهمها سيكون على الصعيد الاقتصادي، إذ يعد بالعودة إلى ما يسميه سمير أمين (نظرية المركز والمحيط) وهي نظرية اقتصادية ترى أن الرأسمالية العالمية قد احتكرت الإنتاج في دول المركز، بينما فرضت على المحيط (وهي دول العالم الثالث) أن تكون دولاً استهلاكية وموردة للمواد الخام. تغيَّر هذا النمط في العلاقات الدولية الاقتصادية مع العولمة، فبدأت دول المركز تنقل الإنتاج إلى دول المحيط لأنه أقل كلفة، مع احتفاظ دول المركز بملكية رأس المال عبر الشركات العابرة للقارات. وهذا ما أدى إلى ظهور اقتصاديات واعدة كالبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا وغيرها. إذا ما ذهب ترامب بعيداً في تحقيق وعوده الانتخابية فإنه سوف يشعل حروباً اقتصادية سوف تعرقل النمو الاقتصادي العالمي. 
على الصعيد الأمني والعسكري فإن ترامب لديه مقاربة مختلفة لحلف الناتو كما الدور العسكري الأمريكي على الصعيد العالمي، فكل طروحاته تريد أن تجعل من الجيش الأمريكي جيشاً مرتزقاً، فهو يريد الدفاع عن أوروبا الشرقية مقابل أن تدفع هذه الدول مقابل هذه الحماية، وكذا الأمر بالنسبة إلى دول الخليج العربي. شخصياً لا أرى أن ذلك ممكن، ولكن منطق ترامب يعد بإحداث خلخلة في التوازنات الأمنية والعسكرية الدولية، ما يفسح المجال لصراعات عسكرية في أكثر من مكان في العالم، بالمقابل، نتوقع تهميشاً أكبر للأمم المتحدة ومجلس الأمن إلا باعتبارهما أداة بيد الإدارة الجديدة. 
أما كيف سوف تنعكس هذه السياسة على منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، فقد يرى البعض أن رحيل أوباما هو بحد ذاته شيء إيجابي، بعد أن أطلق يد إيران في منطقة الشرق الأوسط وسياسته في سوريا أدت إلى اهتراء الوضع السياسي والإنساني والأخلاقي، وبعد أن اتبع سياسات أضرت بحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة على رأسهم تركيا والمملكة العربية السعودية. وقد يرى البعض أيضاً أن انتقادات ترامب للاتفاق النووي مع طهران قد يدفع إلى تغيير في السياسات تجاه إيران، ما يعيد التوازن إلى المنطقة. لكننا نعتقد أن هذه قراءة مستعجلة، فلا نتوقع علاقات دافئة بين العالم العربي والإسلامي والإدارة الجديدة، خصوصاً أن ترامب عبّر عن عداء تجاه الإسلام والمسلمين قولاً وعملاً عندما دفع بصقور اليمين الأمريكي إلى المناصب القيادية في إدارته. سياسة داعمة بلا حدود لإسرائيل، متحالفة مع الأنظمة العسكرية العربية، تعطي الضوء الأصفر للدور الروسي في المنطقة وتغض النظر عن ممارسات إيران بالرغم من انتقاداته لها هنا وهناك. بمعنى أن إدارة ترامب ستكون استمراراً لكل ما اعتبرناه سلبياً في عهدة أوباما، وربما يزيد عليها مزيد من العجرفة والكراهية لهذه الدول وشعوبها. 
لا أستطيع أن أرى في يوم 20 كانون الثاني 2017 سوى يوم شبيه بيوم 2 آب 1934 عندما وصل هتلر إلى رأس هرم السلطة في ألمانيا النازية. التاريخ يعيد نفسه ولكن بطريقة أكثر هزلية وربما أكثر مأساوية.