أن تكون قوميّاً عربيّاً وحوثيّاً
العدد 1689 /12-11-2025
معن البياري
رحمه الله، جورج
طرابيشي، استطابَ ضمّ صدّام حسين الكويت إلى العراق إبّان الغزو إيّاه صيف 1990،
صدوراً عن وحدويّته العروبيّة التي توطّنت مداركَه، وكتبَ أن الديمقراطيّة يحسُن
أن تكون سبيلاً إلى الوحدة العربية، وإذا لم تنوجِد لا بأس بالقوّة العسكرية.
ولمّا كان صدّام غير ديمقراطي، جهَر المفكّر والناقد والمترجم الغزير، الذي كان
بعثيّاً في طورٍ من شبابه الأول، بأنه، في شأن ذلك الضمّ، "مع الفعل وليس مع
الفاعل"، بتعبيرِه حرفيّاً. ولمّا صارت الحرب المعلومة لتحرير الكويت، لم نُصادف
لصاحب "النظرية القومية والدولة القُطرية" (1982) قولاً آخر، وإنما
سمعنا، في غضونها، جورج حبش يحمد الله على أنه أمدّ في عُمرِه ليرى نظاماً عربيّاً
يضرب تل أبيب بالصواريخ، في إشارة إلى ضربات الجيش العراقي دولة الاحتلال، فشاهد
أهل مخيّم البقعة، في أثنائها، صدّام حسين في القمر (!)، على ما تناقلت وسائل
التواصل الشفوية بين الأردنيين في حينه.
يستدعي الإتيانَ
على الوقائع أعلاه مشهدُ قائد حركة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، يُنصِت إليه 250
مشاركاً في المؤتمر القومي العربي في بيروت (الدورة 34)، الأسبوع الماضي، وهو
يحدّثهم، في كلمةٍ مسجّلة، عن "الدور اليمني في جهاز الإسناد ودعم
غزّة". وللحقّ، يتزّعم هذا الرجل حركةً تُؤذي إسرائيل، وتجعل مستوطنين فيها
يقعُدون في الملاجئ، عندما تستهدف بمسيّراتٍ مواقع هناك، فتردّ دولة الاحتلال
باعتداءاتٍ مدمّرةٍ على اليمن. ولمّا استقالت الدول العربية، بجيوشها، من مهمّة
مواجهة إسرائيل، فإنك ستستطيب فعل الحوثيين هذا، وربما تصبح مع "الفعل وليس
الفاعل"، عندما يحضُر إلى بالك أن هؤلاء مليشيا مذهبية، تابعيّتها الإيرانيّة
معلومة، سطت على الدولة اليمنية ومؤسّساتها، وتسبّبت في توريط اليمن في حربٍ أهليةٍ
وتنازع إقليمي معلوم. وبذلك لك أن تستهجن تمثيلَها في مؤتمر قوميين عرب، يُفترض
أنهم على معرفةٍ بالذي تقترفه في بلادها هذه الجماعة "السلالية الانقلابية
الطائفية" (بحسب نعوت يمنيين). وفي البال أن 60 عضواً يمنياً (من أحزاب
وتيارات إسلامية وعروبية وقومية وناصرية) في الأمانة العامّة للمؤتمر القومي
يقاطعونه منذ عشر سنوات بسبب صلاته الحوثية.
نظنّها الأزمة
الكبرى في التفكير القومي العربي الذي لم تُجدّد نخبٌ تنتسب إليه منظوراتها، عندما
وقفت عند الموضوعة الفلسطينية والعداء لإسرائيل من دون اكتراثٍ بقضايا الأوطان العربية
نفسها. وأن يقول أمين عام المؤتمر القومي العربي، في بيروت، حمدين صبّاحي، إن
"المعركة تدور اليوم في كل ساحات الوعي من الإعلام إلى الثقافة
والسياسة"، فصحّة هذا القول هي التي تفترض وعياً آخر لا يُبيح المهادنة مع
قوةٍ انقلابيةٍ مغلقةٍ في اليمن، بدعوى أنها تمارس "فعلاً" ضد إسرائيل.
وعندما يذهب المؤتمر، في بيانه الختامي، إلى أن "استعادة الوعي الجمعي شرطٌ
أساسٌ لاستقلال القرار العربي"، فإنه يُخاصِم نفسَه، لأن قرار الحوثيين في
اليمن ليس عربيّاً تماماً، ولأن للوعي الجمعي (ما هو بالضبط؟)، الذي يأمل
المؤتمرون استعادتَه، استحقاقاتِه، من أولاها نبذ أي قوّة متسلّطة في مجتمعاتنا
العربية، تحتكر بقوة السلاح سلطة تعيين الصحيح من الغلط، كما جماعة عبد الملك
الحوثي.
لا يملك واحدُنا
سوى الاتفاق مع النخبة التي التقت في العاصمة اللبنانية على أن "مشروع
المقاومة هو مشروع نهضةٍ عربيةٍ شاملة". ولكن هذه النهضة ليس لها أن تستقيم
من دون أن يتيقّن أهل الفكر القومي حقائق لا تنفكّ تؤكّدها وقائع الحاضر العربي
التعيس، ومنها أن الدولة الوطنية الجامعة شرطٌ أساسٌ للنهوض المشتهى. ويؤكّد ما
لوحظ في أشغال مؤتمر بيروت، وما صيغ في توصياته وبيانه، صحّة قولة عزمي بشارة في
كتابة "أن تكون عربياً في أيامنا" (2009) إن القوميين العرب يكتفون في
المعارضة بترديد فكرة الوحدة العربية، ورفض التطبيع مع إسرائيل، مع العزوف عن طرح
البديل الجدّي الديمقراطي في كيفيّة إدارة المجتمع. ... وإن مهمّة تطوير الفكر
القومي العربي حسْم موقفه إلى جانب الديمقراطية وحقوق المواطن الاجتماعية
والمدينية. كما أن يباس المنطوق العام لأهل الفكر القومي من نمط الذين اجتمعوا في
بيروت، مع التقدير لذواتهم، يعطي صوابيّةً مضاعفةً لما شدّد عليه بشارة "لا
يمكن أن يتطوّر الفكر خارج الإجابة عن التحدّيات التي تطرحها هموم المواطن
العينية". والبادي أن تطوّراً مثل هذا لم يطَرأ بعد، أقلّه منذ استطابَ جورج
طرابيشي ضمّ الكويت للعراق.